ذاتيات » رسالة إلى أستاذي العزيز |
August 19, 2013 |
|
رسالة إلى أستاذي العزيز
تذكرتك اليوم وأنا أحاول ترتيب حياتي..
لا أعلم أين أنت اليوم، ولا أعرف لك عنواناً مذ تركت الولايات المتحدة إلى اليابان, كما قد علمت، ولا أظن أنك تستطيع قراءة هذه الرسالة لأنك غادرت الدوحة ولما تتقن العربية.
في آخر مقرر جامعي لي معك قلت لي يوماً – ولا أذكر المناسبة- “إن لكِ عقلية مختلفة عن جميع الطلاب الذي عرفتهم هنا.. أستطيع أن أتكهن ما ستكونه كل طالبة من طالبات المقرر .. فلانة ستصبح مدرسة متوسطة المستوى، وفلانة ستصبح أكاديمية مرموقة، وفلانة الثالثة ستكون ربة بيت وتنجب إثنا عشر طفلاً… و.. و.. أما أنتِ..”
ونظرتَ إليَّ بعينين غائبتين تبحثان عن كلماتٍ وكأنك تتفحص آلة بالغة التعقيد وأكملت: “فلا أستطيع بأيّ حال من الأحوال أن أتوقع ما ستكونين، ولكني متأكد من شيءٍ واحد هو أنك ستكونين شيئا مثيراً للاهتمام”.
أسعدتني كلمتك خاصة وأنني كنت أظنك غاضباً مني لكثرة آرائي المعارضة خلال المقررات التي أخذتها معك، وأدركت لأول مرة أننا لا نعرف دائماً ما نحن في نظر الآخرين.. ولكن ما لبثت تلك الكلمة أن غاصت وسط الأيام والسنين..
بعدها بعام أرسلت لك بطاقة تهنئة بالعام الجديد – وكنت قد تخرجت وبدأت التدريس- أقول لك فيها ” أردت فقط أن أقول لك شكراً لأنني وجدت خلال تدريسي أن معظم, إن لم يكن كل ما استفدت منه من معلومات فارقة في قواعد اللغة الإنجليزية خلال مرحلتي الجامعية تعلمته منك وكأني لم أدرس على يد أحد غيرك.”
وهل تعلم لماذا تأصَّل ما تعلمته منك؟ الفضل لطريقتك الغريبة في التدريس..
كل الأشياء ارتبطت لديَّ بمنظرك المضحك وأنت تطل برأسك ذي الدماغ الكبير المستعرض والخالي أعلاه من الشعر كرأس عباقرة العلماء من جانب المكتب الذي اختبأت خلفه أو قفزت فوقه لتبين لنا أن استخدام إحدانا لظرف المكان كان استخداماً خطأ، وكم كتبت لنا على السبورة أمثلة لا تعقل لتبين لنا الفرق بين قاعدة وأخرى فارتبطت القاعدة الصحيحة بالمثل المضحك الذي لا ينسى..
وتتراءى لي عيناك الكبيرتان وهما مستغرقتان في التفكير من تحت جبهتك البارزة بأبعادٍ حادة (والتي استعرتُها فيما بعد لأستاذ الحاسوب الآلي في رواية أشجار البراري البعيدة) فأتذكر كل نصيحة أسديتها لنا بعد مثل ذلك الاستغراق..
أرسلت لك تلك البطاقة وأنا أعلم أنها ستسعدك لأنها من إحدى طالبات مجموعتك المفضلة التي أحببتَ أن تسمّيها “شياطيني”، وفوجئت بعدها ببطاقةٍ جميلةٍ منك مع رسالة قلت فيها إنه قد أسعدك أن تعلم أن ما كنا نفعله لم يكن مضيعةً للوقت، وأخبرتني أن دُفعتنا لم ولن تتكرر..
تذكرتك اليوم إذ شعرت بفوضى حياتي لأني تمنيت في لحظةٍ جنونيةٍ لو كان لي ست عيون وأربع أيادي ويوم به مئة ساعة لأكتب وأكتب وأكتب.. كلما تعبت لي عينان أرحتهما واستخدمت غيرهما وكلما أتعبت لوحة المفاتيح طاقماً من الأصابع استبدلته بغيره، وكلما انقضى يومٌ بدأته من جديد دون أن أضطر لحساب مواعيد نومي واستيقاظي بما يناسب دوامي الوظيفي وحياتي الاجتماعية..
شعرت أنني حبيسة الطاقة البشرية المحدودة وضيق الوقت وسوء تنظيمه، تراوغني قصة قصيرة فأردّها، ويغازلني مقالٌ فأتجاهله، ويهاجمني هيكل روايةٍ فأهرب منه.. وفي الأدراج ترقد أوراقٌ لدراسةٍ طال بها الانتظار..
الآن وأنا أستشعر الفوضى تذكرت نبوءتك.. أعترف أنني لم أسعَ على الإطلاق لتحقيقها عندما سمعتها, ولن أفعل بعد أن نبشتها، ولكني فقط أتساءل: ما هو مفهومك يا ترى للشخصية المثيرة للاهتمام؟ وهل قلت إنني سأصبح كذلك خلال خمسة عشر عاماً أم خلال ثلاثين يا ترى؟
أستميحك عُذراً إذا خيبت ظنك..
في هذه الأثناء أظن أنني يجب أن أرتّب حياتي..
تحياتي أنا وبقية الشياطين
دلال خليفة
نشر في مجلة الصدى الإماراتية عام 2002
|
|
|
دلال خليفة، كاتبة روائية ومسرحية وقاصة من قطر، الموقع الرسمي الوحيد. |
Delal khalifa, Qatari novel, short story and play writer. This is her official website.
|
|
|
|
Leave a Reply