رماد أنجيلا
سيرة جلبت لصاحبها الجوائزَ والغضب
هناك سِيَرٌ ذاتية مشوِّقة, وهناك طُرقٌ للسرد مشوِّقة, وهاتان الميزتان اجتمعتا لدى فرانك ماكورت الأمريكي الإيرلندي الأصل, فسيرته الذاتية “رماد أنجيلا” الصادرة عام 1996م مشوقةٌ بتفاصيل أحداثها, وبطريقته البسيطة والجميلة في سردها مع تفاصيل الظروف والأماكن بإيرلندا في الفترة الزمنية ما بين 1930 و1949م. لذا فعندما تبدأ قراءتها لا تستطيع بسهولة أن تتوقف قبل أن تنتهي. وفور انتهائها تشعر أنها ناقصة لأنها تنتهي وبطلها في التاسعة عشرة من عمره, بينما تُنبِئك صورةُ راويها داخل الغلاف الأخير بأنه تجاوز الخمسين. والجزء الكبير الذي لا تشمله هذه الرواية من حياته يشمله جزءٌ ثانٍ لسيرته علمتُ أنه نُشر بعنوانٍ آخر عام 1999م.
غلاف الطبعة الأولى للرواية
من نقاط قوة الرواية أنه أثناء استمتاعك بقراءة تفاصيل التفاصيل بهذه السيرة يتسرب إليك بخفةٍ وسلاسة الكثير عن طبيعة مدينة ليمِريك بإيرلندا وأحوال الناس المختلفة فيها في تلك الفترة؛ ذلك الفقر المدقع, تلك الظروف المناخية الصعبة, وكثيرٌ من التفاصيل الأخرى..
“كان على أبي وأمي أن يبقيا في نيويورك حيث تزوجا وحيث ولدت, إلا أنهما عادا إلى ايرلندا وأنا في الرابعة وأخي ملكاي في الثالثة والتوأمان أوليفر و يوجين بالكاد قد أتما عامهما الأول وأختى مارجريت قد ماتت ورحلت.” هكذا يستهل الكاتب سيرته الذاتية ثم يذكر أنه عندما يستعرض طفولته يستغرب كيف عاش وتجاوز مرحلة الطفولة, ويقرر أن أبأس الطفولات هي طفولة الإيرلنديين, وأبأس منها طفولة الإيرلنديين الكاثوليك. ثم تأتي التفاصيل.
الرطوبة مثلاً, حيث الأمطار تجعل الجو دائماً رطباً حتى أن الملابس عندما تغسل تكاد لا تجف مهما مر بها من الوقت على حبل الغسيل وإن وضع بالداخل.. إصابته في مراحل طفولته بمرضين خطيرين قضى من أجلهما مدداً طويلة بالمستشفيات, أحدهما التراخوما الذي كاد يودي ببصره أثناء عمله الشاق في شحن الفحم وتوصيله على عربة مكشوفة, وقبله التيفويد الذي كاد يودي بحياته.
ولكنه, وهذا أجمل ما في العمل, لا يتحدث عن هذه الأمور بمأساوية, بل بشكلٍ مشوِّقٍ مرح. ولا يدَع موقفاً به مجال لتعليق ضاحك يمر من دون أن يستغله؛ عندما يكتشف في سني طفولته المتأخرة أن تاريخ ميلاده لا يأتي بعد تاريخ زواج والديه إلا بخمسة أشهر وهو يعلم أن أشهر الحمل تسعة يقول إنه فرح ظناً منه أنه إنسان مقدس!
بالإضافة إلى كون والده سكيراً بشكلٍ زاد الأسرة فقراً, كان منتمياً لحركة “الجيش الايرلندي الجمهوري” المؤمن بوجوب استقلال ايرلندا كلها ولو بالعنف, وكان من ثم ممن هم في حالة تشاكل إما مع الإنجليز وإما مع الايرلنديين أو كليهما كما يقول الكاتب. فأصبح مطلوباً لدى السلطات, أو “على رأسه ثمن” كما يقولون, ويعلق الراوي بأنه في طفولته كان ينظر إلى أبيه بشعره الخفيف وأسنانه المتساقطة ولا يفهم لماذا يدفع أيّ أحد أيّ ثمنٍ في رأسٍ كهذا!
في كل مستشفى له حكايةٌ وأبطالُ مؤثرون, وفي كل مرحلةٍ له أغنيات وأشعار يعج بها الكتاب إذ يستمتع الكاتب بإيرادها متى ما جاء ذكرها, وهو ما يلقي الضوء على شغفه بالأدب الذي ورثه عن أبيه وعلى فكر تلك المنطقة.
وأكثر ما ميز أسلوب الرواية لديّ هو سردها بصيغة المضارع ودائماً من منظور المرحلة العمرية التي يسردها, حتى التعبير عن المشاعر المختلفة يأتي من ذلك المنظور غير المُدرِك لحجم المأساة عندما يكون الحدث مأساوياً. فعندما تموت أخته الرضيعة قُبيل العودة إلى ايرلندا وتأخذه جارتهم اليهودية هو وإخوته الأصغر للعناية بهم فترة انشغال أبويهم بالجنازة والأحزان, وتقدم لهم طعاماً لذيذاً لا يستطع والداه المهاجران الفقيران توفيره يفرح به كثيراً إلى أن يكاد يتمنى لو بقي مع هذه الأسرة إلى الأبد لينعم بالطعام اللذيذ بدلاً من العودة إلى بيت أبيه السكير الذي تقول عنه أمه إن له قدمين يُسراوين, كناية عن عدم إجادته للرقص, إلا أنه وبسلاسةٍ جميلة يتراجع في الحال مدركاً أنه يفضل أن يكون مع والده بقدميه اليسراوين, وأن يرى ضحك أمه عندما تشاهد رقصته الخرقاء وهو يحمل مارجريت الرضيعه. وتنتابه رغبةُ أن تعود أخته إلى الحياة وأن يعود كل شيءٍ كما كان, وهنا نلمس شعور الطفل الصغير بالحزن البريء غير المستوعَب تماماً.
وقد يرى القارئ أنه من غير المنطقي أن يتذكر طفلٌ في الثالثة كل هذه التفاصيل التي يوردها في الكتاب إلا أنه في صفحة الشكر والامتنان يشكر من ضمن من يشكر حفيدته التي “ساعدته” بطفولتها على تذكر طفولته. ولكني لم أعتمد على هذا في ميلي لتصديق ذكرياته, فأهم ما يعين الإنسان على تذكر تلك المراحل الطفولية هي الأحداث غير العادية, فالمشاعر التي تحفِّزها مثل هذه الأحداث تُثبِّتها في الذاكرة, وطفولته مليئة بالأحداث الفارقة بالنسبة لطفلٍ, وحريّ بها أن تَثبُت في ذاكرته. فموت أخته, والإحساس بالجوع, والسفر في سفينة عائدين إلى ايرلندا, ثم موت أخويه التوأمين الواحد تلو الآخر مرضاً, والشعور بالتعب أثناء العمل في طفولتة, والمرض.. كل هذه الأشياء من النوع الذي يضع بصمةً في الذاكرة لا تُزال بسهولة.
والفاقة تتجلى عندما لا تستطيع الأسرة أن تأكل أكثر من قليلٍ من الخبز المقلي في يومها, وعندما يتصدر المائدة رأس الخنزير الذي يُصرف للفقراء ليحتفلوا بالكريسماس بدلاً من الديك الرومي, حتى يضطر الأب إلى قطع ما فيه من لحمٍ يضعه أمام الأطفال ثم يخفي بقية الرأس تحت المائدة ليستطيعوا تناول وجبتهم.. والكدح يظهر من خلال اقتناء فُرُشٍ ملأى بالبراغيث بدلاً من الجديدة, وصعوبة الحصول على ملابس. وبالكاد تعين الأعمال التي يعمل بها الكاتب في طفولته ومراهقته في تغطية بعض احتياجاته. وتتواصل مصاعب أمه, أنجيلا, التي تجعلها تأوي بحزنها وحيرتها إلى المدفأة, ويهجرها زوجها بعد ولادة طفلها الخامس, مع حبه لأسرته, لانشغالاته الأخرى.
أما هو فعندما يبلغ التاسعة عشرة من عمره يتحقق له الحلم بالهجرة بتوفير بعض المال وسرقة ما يكمله من امرأةٍ كانت تستعين به في قضاء حوائجها عندما يدخل عليها فيجدها ميتة فيأخذ أجره من حقيبتها ومعه أربعين دولاراً لشراء تذكرة السفينة, ويهاجر عائداً إلى نيويورك لتكون تلك المحاولة الثانية والناجحة لهجرة الأسرة التي طالما جلس أفرادها يتحدثون عنها ويحلمون بها.
وكشأن كل السِيَر الذاتية تتطرق هذه السيرة إلى خصوصيات آخرين مثل أمه التي بها زادت قائمة الغاضبين عليه من الأمريكان الايرلنديين: هؤلاء يرون أنه أساء إلى ايرلندا وإلى ليمِريك بالمبالغة في إظهار فقرها في سيرته, وهذه تتهمه بأنه صوَّرها في سيرته بشكلٍ يسيء إليها. هذا رغم أن الرواية حازت على عددٍ من الجوائز, وكُرم من أجلها بأشكالٍ أخرى مع أن أمه صاحت به في أحد هذه المحافل معلنةً أن السيرة “ملأى بالأكاذيب”. ولو كنت مكانها لربما فعلت الشيء نفسه, لأنه يبدو أنه لم يترك لها خصوصية إلا وأذاع بها في هذه السيرة المفصّلة, والقيِّمة رغم كل شيء, لأنها إذا لم تنقل واقع إيرلندا في تلك الحقبة بدقةٍ فقد قاربته كثيراً.
دلال خليفة
نشر هذا المقال بمجلة أغناب عدد شهر يوليو لعام 2016م
|
Leave a Reply