|
هل لاحظت أن كثيراً من الأمور التي تمر علينا تبدو أحياناً وكأنها قطع أحجية الصور المقطّعة التي يُفترض أن تضعها في مكانها الصحيح لتكتمل الصورة؟ الفرق أن الصورة في هذه اللعبة تكون عادةً جميلة يسرك أن تراها عندما تكتمل, أما الصورة التي تكتمل في الواقع فقد لا تكون جميلة على الإطلاق..
عندما احتلت أمريكا العراق عام 2003 قرأت خبراً صدمني عن قسيسٍ كان يعد العدة لإرسال بعثة تبشيرية للعراق. وكانت كلماته تكاد تتقافز حماساً وفرحاً كما أحسستها. ولكن مضت الأيام كشأنها دائماً واختفى وقع ذلك الخبر بكلماته المتقافزة حماساً وسط أخبار القلاقل والسيارات المفخخة.
ولكني فوجئت مؤخراً بمقطع فيديو لتقريرٍ ألماني يتحدث عن نشاطٍ تبشيريًّ مكثف في العراق بواسطة بعثتين, إحداهما تسمى صوت الشهداء جاءت بأطنان من الأنانجيل والكتب حسب تعبير التقرير لكافة الأعمار واندست وسط الناس. وعندما سأل أحد معدّي التقرير إن كانت أنشطتهم تؤدي إلى قتل من يتنصر من المسلمين, رد بأنه خيراً لهم أن يُقتلوا نصارى فيخلدون في الجنة من أن يخلدوا في النار! أما البعثة الأخرى فيُمنع نشاطها في أيِّ دولةٍ عربية أخرى, وهي التي دفعت ببوش إلى الرئاسة بصفته واحداً منهم فنالت مكافأتها في العراق. ألهذا يا ترى أعلن العراق دولةً محتلةَ فور تمكنه منها؟ ألأنها كانت الطريقة الوحيدة لتعطيل ذلك القانون الذي يمنع نشاط تلك البعثة في دولةٍ عربيةٍ؟ لا نملك إلا التساؤل.
في هذا المقطع أيضاً يُجري معدّو التقرير لقاءات مع بعض هؤلاء المبشرين فنستشف أنهم يرون تمسيح العراق مجرد بداية, وأن هدفهم الحقيقي هو الشرق الأوسط كله لأنهم يرون أن الفكر الإسلامي هو العدو.
وتبرز قطعة أخرى للأحجية كانت غائبة: عندما اندلعت الثورة في سوريا, اكتشفت في مرحلةٍ ما أن اليوتيوب يضع بعض مقاطعها يومياً في خانة المقاطع المميزة أو ذات الأهمية, لا أعلم متى بدأ وضع هذه المقاطع في خانة المقاطع المهمة ولكني أعلم أنها اختفت فجأة بعد أسبوعين تقريباً منذ أن اكتشفتُ أنها هناك. وبما أن المقاطع التي توضع في هذه الخانة يراها الناس على مستوى العالم فقد كنت أحياناً أرى من بين تعليقاتها تعليقات لأجانب, منهم من يستفسر عن أشياء ويطلب ترجمتها من باقي المعلقين, ومنهم الذي يضيق ذرعاً بالتكبير فيحاول السخرية أو الإساءة بألفاظ قذرة. ثم بُعَيْد سقوط إحدى الطائرات اختفت هذه المقاطع تماماً من خانة المقاطع المميزة.
غير أنني عندما سمعت الجنرال المكلف بملاحقة بن لادن, الذي هو أيضاً من المعمدانيين المتطرفين, يتحدث في التقرير بهذه الكراهية لا عن بن لادن الذي اعتمد الوسيلة الدموية, وإنما عن الإسلام زاعماً أن “إلهه” هو الأعظم وأنه الإله الحقيقي وأن إلهنا مجرد صنم, شعرت أن اختفاء مقاطع سوريا المليئة بالتكبير قد تكون مرتبطة بهذه الرؤية المعادية للإسلام والتي ترى أننا نعبد صنماً. نحن من يعبد الصنم؟ بربكمّ!
كنت أعد نفسي من المتسامحين دينياً والذين يقبلون الآخر, ولكن يبدو أن الإنسان يستطيع أن يكون متسامحاً بشكلٍ أفضل عندما يكون بين متسامحين وليس بين مُعادين. فنحن عندما ندعو أتباع الدينات السماوية لديننا ندعو وفي داخلنا أن نصحح عقيدة الآخرين لأنها نراها ليست سليمة بفهمهم لها وليس بذاتها, من منطلق أن لدينا الكتاب الأخير الذي تحدث عن ابتعاد الأمم السابقة عن العقيدة السليمة التي يرضاها الله تعالى, وليس لأننا نرى أن دينهم ظلامي وشيطاني.
ثم تأتي القطعة الأخيرة: موقف غوغل عندما تجاهلت رغبة المسلمين ومشاعرهم بإصرارها على عرض الفيلم الحقير, ولا أسميه مسيئاً لأن المسيء لفظة تحترم الفاعل وأنا لا أحترمه.
اكتملت الصورة لديّ..
ولم يبق إلا أن نفكر, كيف نرد عن حبيبنا وديننا وكياننا وقناعتنا بشكل سلمي وحضاري؟ الكثير من الشباب يتحمس لمناصرة دينه فيحاول بطريقته الخاصة وفق فكره غير الناضج وفهمه غير المكتمل لفلسفة هذا الدين ومبادئه فإما أن يشرح الأشياء بطريقته غير الناضجة أو أن يسب أتباع الأديان الأخرى فتكون النتيجة أنه يستجلب المزيد من الفهم الخاطئ لهذا الدين ومن السخرية منه. ولو تمسك كل منا بمبادئ دينه وتخلق بخلق رسوله لكفى بذلك دفاعاً حتى يكتمل فهمه لتفاصيل هذا الدين وتكتمل أدواته الفكرية التي تؤهله لأن ينتقل إلى مرحلة الدفاع الفكري.
ثم برزت لي (ولا أعلم لماذا) صورة أخرى: صورة غاندي, ذلك الرجل العظيم الذي رفض إساءة البريطانيين باحتلال بلده فخلع لبستهم وارتدى لبسته المعروفة التي لا تخيطها آلتهم, ونبذ أطعمتهم واتخذ ماعزاً تغنيه عنها.
لماذا لا نصبح في ربع إيمان هذا الرجل بقِيَمه؟ لماذا لا ندافع عن قناعاتنا بشكلٍ أقوى؟ السر هنا الشعور بالكرامة الذي يجعل الإنسان يستغني عن أشياء كثيرة من أجل قيمه, الغريب أن التمسك بكرامتك يجعلك أكثر إحساساً بكرامة الآخرين. لقد اكتشفت أن لغاندي مواقف مشرفة من القضية الفلسطينية التي عاصر بداياتها, فقد رفض امتهان الفلسطينين وهم أصحاب البلد باغتصاب بلدهم وفرض اليهود عليهم. وقديماً رفض اضطهاد المنبوذين والأقليات في بلده وهو المنتمي إلى طبقة رفيعة المستوى.
قد لا نصل إلى مقدار ترفع غاندي في سبيل الحفاظ على الكرامة والمبدأ, ولكننا قطعاً نستطيع أن نعبر بشكلٍ ما عن استيائنا عندما يحاول أحدهم المساس بمقدساتنا..
مثلاُ لماذا لا نستغني عن خدمات غوغل إذا أغضبتنا لكي نكون متصالحين مع قناعاتنا. وهي ليست الخيار الوحيد, فهناك ياهو مثلاً كمحرك بحث, وبينغ. قد لا يكونان بمستوى غوغل مائة بالمائة ولكن هناك دولاً لا تستخدم غوغل أصلاً. وقد تكون كل هذه المحركات منتمية لفكر واحدٍ إلا أن هناك فرقاً بين شيءٍ من المبالاة وبين اللامبالاة أو الاستفزاز.
من ناحيتي, أبدلت محرك البحث إلى ياهو في أحد أجهزتي التي أعتمد عليها في استخدام الشبكة, عندما أصبحت أخبار الفيلم الحقير تبرز كخيارات أولى كلما وضعت حرفي التعريف ال… تمسُّكُ غوغل المقيت بالفيلم هو ما جعلني ألجأ لمحرك بحثٍ آخر وإن كنت لا أعلم سريرته, إلى أن قل الاحتفاء بهذا الفيلم وتراجع إلى الخلف بما يجعل الوضع أقل استفزازاً.
أعلم أننا مهما عملنا لن نوف بذرّةٍ مما يستحقه منا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. ولكني أعلم أيضاً أن أمامنا الكثير من خيارات الدفاع السلمية والمتحضرة عن ديننا الذي أصبح يُحارَب على جبهاتٍ لا نعلمها ولا نعلم عددها. هذه ليست حالة شعور بالاضطهاد أو بارانويا كما تسمى, إنه شيء حقيقي, وواقعي, ولكنه من النوع الذي لا تنبغي مواجهته إلا بالفكر.. وبالفكر وحده.
دلال خليفة
|