هذه الكتب البلاستيكية..
نريد المزيد منها
عندما اتصل بي المنسق الثقافي بمركز قطر الاجتماعي والثقافي للمكفوفين, د. طارق العيساوي, يدعوني لقراءة بعض قصصي القصيرة وللحديث عن القراءة لشباب المركز, لم أستطع إلا أن أوافق رغم أن موعد الفعالية كان بعد يومين. لقد شعرت أنني لا أستطيع أن أقول لا لهذا المجتمع. ففي ورشتين قدمتُهما لكتابة القصة القصيرة كان بعض طلابي من هذا المركز, وكانت الطالبات الأربع أو الخمس اللاتي شاركن منه, من ألطف الشخصيات وأكثرها طموحاً, تُحَلّيهن الروح المرحة والثقة بالنفس.
في هذه المرة أيضاً لاحظت تجاوباً جميلاً لا أراه دائماً عندما يُفتح المجال للنقاش. الكلام يأتي جاداً, واستيعاب ما قلتُه ناضجاً. كما تشعر بحماسهم وطموحهم, ولا تملك إلا أن تتمنى الأفضل لهولاء الشباب الطموحين.
ولكنك أيضاً تشعر أنّ الاهتمام بثقافتهم يقتضي تقديم المزيد من قِبلنا كمجتمع. سألتهم إن كانوا يشعرون بأن لديهم ما يكفي من مصادر الثقافة والإطلاع من كتب تُقرأ بطريقة بريل وكتبٍ صوتية.. خاب أملي, ليس مما قاله بعضهم فحسب, بل وعندما رأيت مكتبتهم. كنت أظن أنني سأرى مكتبةً ملآى بالكتب التي تقرأ باللمس, وأنها ستحوي مكتبةً صوتية بها عددٌ من أجهزة الكمبيوتر المعدة لسماع الكتب عن طريقها, ولطباعة ملاحظاتهم عليها. ولكني وجدت بها كتباً ورقية قليلة, وكتباً أقل بكثيرٍ جداً مما يقرأ باللمس. ويبدو كما علمت من المشرفين أن نسخة بريل لأيِّ كتاب تحتاج إلى حيِّزٍ أكبر بكثير مما تحتاجه الكتب العادية, ما يجعل المركز يستبعد النصوص الطويلة مثل الروايات وما شابهها في الطول. فنسخة القرآن الكريم مثلاً بطريقة بريل, كما أُخبِرت, تتكون من ستِّ أجزاء, لأنها لو كتبت في جزءٍ واحد كما في المصحف العادي لصعب استخدامه لكبر حجمه, إذ أن حجم الصفحة عادة أكبر قليلاً من صفحة الكتاب الورقي ذي القطع الكبير, وأكثر سُمكاً.
عندما تفحصت إحدى النسخ أخذتُ أنظر إلى ذلك العالم من البلاستيك الأبيض الرقيق والمليء ببروزاتٍ صغيرة كالنقط الدقيقة الناتئة, والتي لا تكاد ترى. وكما فعلت أوّل مرة عندما طلبت عام 2010 إلى هذا المركز أن يحوّل بعض الأوراق التي أعددتها لطالبات دورةٍ في القصة القصيرة إلى نسخة برِيل من أجل طالبتين كفيفتين, حدّقت في الصفحات ومررت بأصابعي على كلماتها وقد ظننتُ بسذاجة أنني سأجد حروفاً عربية بارزةً أمامي ففوجئت بتلك النقط ولم أصل إلى شيء.
عندها تذكرت محاولتي السابقة, وكذلك أخبرني المنسق الثقافي أن أحرف بريل, أو نُقَطِه الصغيرة, ليست أحرفاً عادية. أخذت أتأمل الصفحتين العريضتين من البلاستيك الشديد البياض والخالي إلا من تلك النتوءات الدقيقة.. كيف تكون هذه النقط كلاماً؟ ولماذا لا تكون حروفاً عادية بارزةً بدلاً من هذه النقط؟ لم أحب أن أثقل على مسؤولي المركز بذينك السؤالين. سآخذهما معي إلى الشبكة, ولكن, هل أنا الوحيدة التي فكرت بأنه من الممكن أن تستخدم الأحرف العادية بنفس الأسلوب بدلاً من النقط البارزة؟ موعدي مع الشبكة عندما أعود. لقد أثار ما قدمه بريل للبشرية مشكوراً شهيّتي لأن أعلم..
عندما بحثتُ علمت أن لويس بريل الذي فقد بصره في سن الثالثة من العمر والذي تفوق في أشياء كثيرةٍ منها الموسيقى, كان من الثقافة والذكاء بحيث علِم وتعلّم هذه الرموز التي تمثل الأصوات اللغوية, والتي كانت ابتكرت على يد الضابط الفرنسي بيير لسكي كشفرةٍ لمراسلة الجيش الفرنسي أيام حربه مع الألمان. طوّرها بريل وقلل عدد رموزها المعبرة عن أصوات الحروف من إثنتي عشر نقطة للحرف الواحد إلى ست نقط ليسهل استخدامها على الكفيف للقراءة بتتبع هذه النقط. وعندما نجحت الطريقة حاول إدخالها المدارس ولكنها لم تطبق إلا بعد وفاته (كالعادة دائماً).
والمفاجأة, هي أن هناك من فكّر واستخدم بالفعل الأحرف العادية البارزة, كما أن هناك من استخدم طرقاً أخرى, إلا أنه لم تنجح إلا طريقة بريل وبهذه الرموز, لذا فقد اندثرت كل الوسائل ولم تبق إلى اليوم إلا هي, حيث وُحِّدت الرموز بعد محاولة التوفيق بين الأصوات المستخدمة في اللغات المختلفة.
الغريب أنني لا زلت أشعر بالدهشة حيال هذه النقط البارزة. عندما سألت الحضور عن تجاربهم القِرائية المميزة, قالت إحدى عضوات ذلك المجتمع الطموح إنها قرأت كتاباً مشوّقاً جداً جعلها تسرع في القراءة لشوقها لمتابعة الأحداث, ما ساعدها على أن تطور قدرتها سريعاً على القراءة باللمس, وكانت في طور تعلّمها للقراءة بهذه الطريقة.
أمام صفحتَيّ الكتاب الكبيرتين من البلاستيك الأبيض, شعرت بالضياع.. حاولت بلا جدوى أن أصل بأطراف أصابعي وحتى بعينيّ إلى أيِّ كلمةٍ فيها فلم أصل.. شعرت بقلة الحيلة إذ لم أتمكّن حتى من معرفة موضوع هذا الكتاب – فغلافه الورقي الأبيض ليس به كلمة تقرأ ولا حتى نتوءات. هذا الشعور بقلة الحيلة إزاء ما بين يديّ عزَّز شعوري كثيراً بأننا مقصرون جداً في حق هذه الشريحة من أهلنا. لا بد أن شعوري أمام كتابهم شبيهٌ بشعورهم تجاه الكتب الورقية. خاصة وأني, وقد قابلت بعضهم, أعلم أنهم توّاقون إلى المعرفة, وإلى الاستمتاع بالأدب.. وأعلم أن كتبهم أقلّ بكثيرٍ جداً من تعطشهم للاطلاع, ومن عشقهم للأدب. ومع الأسف لا توجد أيّ خططٍ, فيما أعلم, لإنتاج كتبٍ صوتية على مستوى مؤسساتي.
من هنا أهيب بالمسؤولين, في دولةٍ طموحةٍ ومتطورةٍ على مستوى التعليم مثل قطر, أن تسعى إلى توفير المزيد من الكتب لهذه الشريحة الخلاقة من أبنائها.. إن الكفيف وأصحاب الإعاقات الأخرى أعضاء منتجون في المجتمع إذا أتيحت لهم الفرصة ويستحقون الكثير. هل نتخيل الشعر العربي القديم من غير إسهام المعرِّي مثلاً, وفي عصرنا الحالي وفي قطر لا ننسى محمد الساعي رحمة الله الذي أصبحت أغنيته “الله يا عمري قطر” أكثر ما يحرك الوجدان تجاه قطر, وهناك الموهبة الشابة خلود أبو شريدة التي كانت في ورشة القصة القصيرة المذكورة أعلاه. هذه الورشة أنتجت مجموعةً قصصيةً كتبتها الطالبات ومن بينهن خلود التي لا يزال في جعبتها الكثير.
ولا أهيب فقط بالمؤسسات الحكومية والمجتمعية فقط, بل وبِدُورِ النشر التي قطعاً يمكنها أن توفر لمجتمع المركز نسخة ملفِّ وورد لصحفها حتى لو اكتفت بأهم الأخبار, وتستطيع أن تحفظ حقوق نشرها بشكلٍ أو بآخر بالاتفاق مع المركز. كما أهيب أيضاً بباقي الكتّاب كأفراد لأن يتصلوا بموقع المركز الالكتروني ويقدموا بعض إنتاجهم كملفات وورد لمركز المكفوفين ليتمكن هذا المجتمع المتعطش للقراءة من قراءة أدبهم وإنتاجهم الفكري على أجهزتهم الخاصة التي تمكنهم من القراءة بطريقة بريل من خلال إعدادات خاصة لأجهزة الكمبيوتر المحمولة التي يوفرها المركز لطلابه ومرتاديه, أو ليحولها إلى كتبٍ لمسية أو صوتية. من ناحيتي بدأت بثلاث قصصٍ يجري تحويلها لكتيبات لمسية ووعدتُ بتقديم المزيد بإذن الله من ما يصلح من إنتاجي من أجل هذا الغرض.
إن النهوض بالمجتمع لن يتم إذا انتظر كلٌّ منا مساهمة الآخرين في بناء المجتمع من دون أن يفعل شيئاً..
دلال خليفة
نشر في مجلة أعناب القطرية بعددها الصادر في شهر أكتوبر 2016م
|
Leave a Reply