في إحدى السنوات الأولى لهذه الألفية التقيتها في أبو ظبي هي وزوجها الشاعر المتميز حسان عزت. وعندما جلسنا, لا أذكر الآن أين, ربما في حديقة الفندق, أخرجت دفتر أشعارها وأخذت تقرأ لنا منه. لا أذكر الآن ما قرأته تماماً ولكني أذكر جيداً شغفها بقراءة الشعر.. طريقتها في القراءة التي تشبه البوح بأشياء نضجت وآن لها أن تخرج من حيّز النفس. كان بها عاطفة كبيرة تفيض على المعاني التي في كلماتها إلى الشعر نفسه. إنها امرأةٌ تعشق الشعر.. تستمتع بالكلمات.. بصوغها شعراً وبوقعها شعراً.. إنها… شاعرة..
غلاف قهوة الكلام
بعد ما قد يزيد على العشر سنين, ها أنا ألتقي فاتن ثانية, وها هي تخرج لنا في لقائنا اللطيف بالمطعم, ليس دفترها المليء بالشعر بخط يدها كالمذكرات الحميمة, وإنما هذه المرة نسخةً من ديوانها الأول “قهوة الكلام”, الذي ستجلس لتوقيعه بمعرض الشارقة بعدها بيومين, وأخذت تقرأ منه بعض القصائد. الحماس نفسه.. الدفق العاطفي نفسه. إلا أنني في هذه الجلسة الشعرية الطازجة لاحظت شيئاً, أو ربما, تعزَّز لديّ شيء, هذه المرأة شاعرةٌ جداً.. جداً..
هل رحل بردى؟ قصيدة “لي فيك يا بردى” شبه مرثاةٍ مؤثرةٍ لهذا النهر الذي خَلَد في ذاكرتنا المخصصة للشام ليزيدها جمالاً ورومانسية, قد يكون غيابه مؤقتاً إلا أن غيابه ولو مؤقتاً يكاد يدمي قلب الشاعرة فتخرج توجّداته لتملؤنا كمداً على بردى:
أدخل العواصم والمدن/أرسم نهراً في الرمل/أرسم صفصافاً/أتزوبع/فتغيب الأبعاد/لم يعد مركبٌ ولا ياسمين/لم يعد نهرٌ يتذكر مجراه/كنت منكسراً/ وأغني…/لي فيك يا بردى.. يا بردى
قصائدها, وقد أصبحت بين دفّتي كتابٍ بين يديّ, بها كمٌ هائلٌ من الإحساس؛ بالآخر.. بالوطن.. بأرصفة الحواري العتيقة.. بالحروف.. بكل شيء. من أجمل كلماتها التي تجدها في قصيدة “شناشيل”:
فتحت أيامي وهربت منك/ أغلقت المسام وثنايا الأبواب/ أغلقت قلبي ومشيت../ فمن يهشّ عن نافذتك الملل/ اعتامت روحي… أرعدت فأجهشت/ قلتُ: إنه المطر/ وقلتُ ستجمعنا مظلة/ رفعتُ حروفك../ وفي غرفةٍ بعيدةٍ أقصيت نهري/ لم يكن ذاك الشتاء معتماً/ لولا مظلةٌ منسيةٌ هناك
هلا نظرت قارئي كيف عبرت هذه الشاعرة عن افتراقها عن الآخر الذي يداخل ارتباطه بها الزمن والأيام, وكيف عبرت عن الهروب منه.. كيف لم يكفِ إغلاق الأبواب حتى أغلقت المسام؟ أما ما يدعوك إلى التوقف لتقضى لحظةً مهيبةً تتماهى فيها مع جوِّ القصيدة وتتعاطف مع شخوصها وأشيائها فيأتي في السطرين الأخيرين من المقطع: “لم يكن ذلك الشتاء معتماً/ لولا مظلة منسية هناك” فهذان السطران بمثابة الخبرة المشتركة التي تصنع دائماً سحر القصيدة. لا يكاد إنسانٌ يجتاز الحياة من دون أن يمر بنوع من الخبرات يشترك فيها مع معظم الناس. وهي هنا تلك الحالة التي يستثيرها شيءٌ من الأشياء التي كنا نراها بلا شأنٍ البتة فإذا بها تختزن من الذكرى والأحاسيس ما لم نكن نتخيل. تلك المظلة الحزينة تُفشل خطةَ عاشقةٍ للنسيان كما تفعل كل الأشياء التي ما كنا لنظن أنها قد تنقلب علينا يوماً لتصفعنا بهشاشتنا التي كنا, مكابرةً, نجهل وجودها لدينا.
لشعر فاتن حمودي نكهته الخاصة وكلماته المفتاحية, إن صح التعبير, أو البارزة, التي يبدو أن الشاعرة تدرك معاني بعضها بشكلٍ مختلفٍ خاصٍّ بها, وتستمد الصور المعتادة من بعضها الآخر.
فاتن حمودي في حفل توقيع قهوة الكلام
البرد بكل مشتقاته, “بردان”, “بارد”.. كلها دلالات افتقاد أشياء أساسية في حياة الإنسان تمده بالدفء: الآخر الراحل, الآخر المفتقد, الآخر الميت.. الوطن.. البيت.. “وذلك المقعد البردان في أعالي الجبال” (من قصيدة “وجوه”) “وضاقت نافذتي وأنا برداااانة” ( من قصيدة “شناشيل”)
ثم هناك مكونِّات وأدوات القصيدة من “كلمات” و”حروف” و”أوراق” و”نَصّ” وغيرها. كلها تُذكَر وتُكرّر بما يصعب حصره, وبشكلٍ لا يدلّ إلا على الهوس بالقصيدة والحيّز الضخم الذي تشغله في نفس هذه الشاعرة.
“قميص”.. “قمصان”: يبدو أن القميص هنا ليس فقط ذلك الملبس الذي يُتخذ لستر الجسد أو لحمايته, وإنما هو في الغالب أداة تنكّر أو تخفّي, أو حالة راهنة مؤقتة, غالباً من الغياب والغربة.
الكلب: هذا الحيوان عادةً, وخاصةً في الثقافة العربية, يعبر عن الشخص الشرس, الوضيع, الخسيس, الجائر, ولكنه عند فاتن حمودي يكاد يُجرَّدُ من معظم هذه الدلالات. إنه حيوانٌ مسكينٌ حائرٌ, وربما حزينٌ أيضاً, ينبح بعيداً خلوَّ المدينة من سكانها, كما يعض القمصان (حالة الغربة) المنسكبة لتحول بينه وبين المدينة التي يحب. إنه كائنٌ بلا حولٌ ولا قوةٌ, ولا قيمة له على الإطلاق تشبّه به الشاعرة نفسها في اغترابها عن الشام, تمرغاً في تراب الشام, كما يقزّم العاشق نفسه أمام قدميْ محبوبه العملاق علّهُ يعبّر عن ذرةٍ من حجم منزلته الهائل عنده:
“يا شام… يا شام… أنا بدون أصواتك… أغنياتك… حمائمك…
أزقّتك… ياسمينك… لست
غير كلبٍ لاهثٍ يعضُّ قمصان الغياب” (من قصيدة “غريبان”).
“الطريق” كذلك حالةٌ راهنةٌ تمثل الابتعاد عن الوطن, ابتعاداً من المأمول أن يكون مؤقتاً, كما تمثل المحطات الحياتية التي قد لا نحب بعضها إلا أنه يتعين علينا احتمالها كمتلازماتٍ لما نريد تحقيقه. خير ما يمثّله قصيدة “الطريق بلوى”, الذي يبدو وكأنه قصةً من النوع التجريبيّ تحكي سيرةً ذاتيةً للشاعرة أبرز ما فيها غيابُها عن الوطن.
ثم هنالك مجاذيب الحي, المقاعد, المطر, الثلج, الرياح, الشموع, العصافير, الياسمين, الشام.. الشام.. الشام.. لا يمكن أن تقرأ “قهوة الكلام” فلا تشعر بقلب الشام, بحواريها.. بأزقتها.. بجُرحِها.. وبالمكانة المحفورة لها عميقاً عميقاً في نفس الشاعرة, وبمقدار اشتياقها إليها.
فاتن, صديقتي, إبقي على شغفك بالكلمات, وبالحروف والشعر ما حييتِ. لا تفقدي حماسك يوماً لكتابته ثم قراءته لنا بذلك الشغف وتلك الحميمية, فالشعر مثل باقي أجناس الأدب عينٌ أخرى ومختلفة نرى بها العالم ونستمتع بوصف ما نراه من خلالها, ثم نُمتِع به الآخرين.
دلال خليفة
نشر في مجلة أعناب, العدد الرابع
|
Leave a Reply